الثلاثاء، سبتمبر 29، 2009

شعاع من الألق المقدس


يحدث أحيانا، حين أخلو بنفسي، أن تأتي الذكريات، وتضعني مشفقة، في حضنها اللذيذ
 تتلو بصدق، وحماسة وعفوية، أولى النصوص، من سفر حياتي .
لقد كانت أمي هي النص الأول..
 ولم لا ؟ وهي كانت أنا، وأنا كنت هي .
شعرت بالحياة، للمرة الأولى، وأنا في حضنها
 تغمرني بالقبلات، وتردد العبارات، المألوفة لدي ، بالنغمة الخاصة، المعروفة عندي، والنور ينسكب، من كوة صغيرة، بما يكفي لأراها، تغمر أحاسيسي، بالحب الجارف...
 وجهها في عيني... نبضها في أذني... شذاها في أنفي...
 وثديها... ذلك الذي جعلني أعتقدأنها الأزل والأبد... البداية والخلود... المشارق و المغارب... أول قصة.. للعشق و الفرح... للحزن و الشجن... للبين و الوصال... ثديها الجذاب.. كان بين يدي.. وكان في فمي الذي تلتهب في شفتيه جذوة العشق والكلف العارم لهذه الحياة ......
حين كنت في الخامسة..
 كان رجل و امرأة يشتمان أمي !
يومئذطعنني الحزن، بقسوة وخسة، طعنته الأولى!
 إذ أجهشت أمي، تبكي بحرقة، وقد كنت أظن أنها لا تبكي !..
 غامت الأشياء، أمام ناظري، للحظة مهولة...
 وتملكني الهلع الذي لايوصف...
فانجرفت مستسلما، للدموع والعويل .....
وانتبهت في المساء، من وهدة الكرى، على صوت غريب...
 إنها أمي ثانية... تبكي وتردد شكواها... رافعة يديها... ياااااارب ...
سرت في كياني رعدة لذيذة، و تنهدت بعمق....
 أحسست أن أمي تقوم بإجراء مهم وخطير، انتصافا لنفسها، من أولائك الأشرار...
 فثارت في نفسي أشجان غامضة...
 و نمت مسرورا؛ لشعوري القوي بأن أمورا تتم كما تريد أمي .

 في عتمة الصباح.. تحدثت مع أمي، و نحن ماضون، إلى الوادي القريب...
وللمرة الأولى حدثتني جادة عن الله... الخالق... والصلاة والقرآن...
لم تكن فرحتي- بتفاعل أمي مع رغبتي الصادقة لفهم أشياء - أكبر وأعمق من فرحتي العظيمة لحديثها الخطير عن معنى الله...
وهو الذي أشرق يومئذٍ في كل ذرة من ذرات وجودي بنوره القدسي للمرة الأولى...
 فانقشعت بسرعة ظلمة رهيبة من الأحزان والمخاوف أحاطت بحياتي و بذرت فيها بذور الشقاء والعذاب الأليم .

لقد كان هذا ولادة ثانية..
 وجدت فيها نبعا مثل زمزم.. للأمان التام، و السعادة الشاملة، بعد أن أدركت بجلاء أن أمي لم تكن سوى البطلة العظيمة في القصة الرائعة...
أما مبدعها على غير مثال فهو من يدعى الحي القيوم...
 و أرحم الراحمين... ذو الجلال و الإكرام .
لم تكن أمي بلحنها و لحمها..
و قلبها و حبها..
 و كل أساطير ثديها..
غير ظل من تريليونات تريليونات الظلال...
 لرحمته الغامرة..
 وعنايته الفائقة..
 و لطفه الكامل .
لم تكن أمي يا ناس سوى شعاع من الألق المقدس .

هناك 5 تعليقات:

  1. فعلاً الأم هي أحدى مظاهر الرحمة الإلهية على هذه الأرض.. الأم هي الجنة الوحيدة التي نلجها دون حساب.. أسئل الله أن يجعلها لكم باب جنته في الآخرة

    ردحذف
  2. عيدكم مبارك وأيامكم سعيدة.. وإن شاء الله من العايدين بخير وصحة وسلامة وتحقيق الأماني

    ردحذف
  3. أما مبدعها على غير مثال فهو من يدعى الحي القيوم...
    و أرحم الراحمين... ذو الجلال و الإكرام .

    لم تكن أمي بلحنها و لحمها..
    و قلبها و حبها..
    و كل أساطير ثديها..
    غير ظل من تريليونات تريليونات الظلال...
    لرحمته الغامرة..
    وعنايته الفائقة..
    و لطفه الكامل .

    لم تكن أمي يا ناس سوى شعاع من الألق المقدس .

    يقول الفيلسوف الانكليزي كولن ولسن " كل الناس تدور في رؤسهم عواصف الافكار والمشاعر لكن اصعب شيء في هذه القضية هي كيفية اخراج هذه الكلمات من العقل الى الورقة من فتحة القلم الصغيرة جدا؟"
    كيف استطعت الانطلاق من استقراء الذكريات إلى هذا الفيض من الألق المقدس ؟
    أنت شاعر مميز أخي أحمد لكنك تمتلك عقل مفكر ، فقد أجدت تطويع بعض المناهج الفكرية هنا دون عناء.
    فهل لديكم محاولات لحل بعض القضايا الفكرية الشائكة؟ إن لم يكن فلعقلكم القدرة على ذلك ...دعه ينطلق ...

    ردحذف
  4. الأخت الكريمة والأستاذة العزيزة و الباحثة القديرة
    نور الهدى

    لا أدري ماذا أقول رداً على ما تكرمتِ به من كلمات تطرب القلب و تعجب العقل

    أكتب الشعر مستغرقاً في ما أحسه من ذكريات و رؤى غارفاً ما أستطيعه من مخزون العقل الباطن راسماً ذلك بريشة قلبي

    أهتممت بالفكر مذ كنت طالباً في المرحلة الإعدادية
    و لم يتوقف عقلي يوماً ما عن النشاط و تقليب و فحص مدركات الوجود
    و قناعتي أن النصوص الأدبية يجب أن تكون نابعة بصدق لتجعل مثلك ينفذ إلى مرجعيته و مناهجه الفكرية

    ألف تحية لكِ نور

    ردحذف

((تبارك اسم ربك ذو الجلال و الإكرام))